العباسي والغنوشي ..صراع «المربّيين»


ملمحان نقدّمهما للقرّاء.. انطلاقا من أحداث طفت على السطح.. فرشحت باسمين بارزين خلال الأسبوع المنقضي: رئيس حركة النهضة والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل..
فقد تصدّر كل من حسين العباسي وراشد الغنوشي مشهد البلاد السياسي من حيث التناقض.. والصّراع.. والفعل وردّ الفعل..
«بورتريه» لكل منهما، قد يساهمان في سبر أغوار الشخصيتين اللتين غمرتا المكتوب والمسموع والمنطوق في المشهد السياسي والاعلامي..
حسين العباسي : غضب الحليم... لا يحمله الى «الدانكيشوتية»
«إحذروا غضب الحليم»
هكذا بدا حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل مساء يوم الرابع من ديسمبر الحالي... حين تعرّض الاتحاد الى هجوم من نوعين يراهما الملاحظون متكاملين: هجوم ماديّ عبر محاولات اقتحام وتكسير وضرب بالحجارة والعصيّ استهدفت الاتحاد بساحة محمّد علي... وهجوم كلامي من خلال خطاب اعتبره النقابيون أنّه تهجّم على الاتحاد، عندما طالب رئيس حركة النهضة بتفتيش وإخلاء مقرّات المجتمع المدني (وقد فهمها الجميع على أنها تخصّ الاتحاد العام التونسي للشغل) من الأسلحة ووسائل العنف!

حالة إحتقان شخصي مضاف اليها حالة احتقان اجتماعي شعبي وسياسي، انتابت الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل... الذي بدا خلال «المواجهات» التي فاتت ومرّت بين حكومة «الترويكا» والاتّحاد، كمن يواجه عمليات «صبّ الفضلات» أمام مقرّ المركزية النقابية، وكذلك عمليات التهجّم على الصفحات الالكترونية، بمقولة: «يا جبل ما يهزّك ريح»...

حسين العباسي، الذي يقول عنه رفاق دربه وكذا المختلفين معه، أنه «جبل المحامل» نظرا لهدوئه... وسعة صدره... وصبره...

بتؤدة... تلحّف بالعمل النقابي المناضل... العمل النقابي الذي يبتعد عن ابتغاء الحكم... ولكن الضغط عليه...

ولد سنة 1947 بالسبيخة بالقيروان، بدا محلّ اجماع بعد أن اعتلى «منصّة» الأمانة العامة للاتحاد الذي قدّه حشّاد ورفاقه ذات 20 جانفي 1946، بطريقة ديمقراطية من حيث الانتخاب والوصول الىمكامن المؤسسات والهياكل النقابية... التي لم تهزّها لا رياح الاستعمار الفرنسي المباشر باغتيالها للزعيم حشّاد... ولا الرياح التي عصفت ووارت صيت اليوسفيين ومن قبلهم الثعالبيين، ولا كذلك 26 جانفي 1978... ولا غيرها من المحطّات التي فيها شدّ وجذب بين السلطة والاتحاد...
هذا المربي الهادئ، الذي آمن بمطالب التونسيين... وتنقّل خلال الثورة بين أبناء تونس الذين انجزوا الثورة... إلا النّزر القليل من أبنائها الذين نأوا بأنفسهم، خشية عودة الدكتاتور...
لم يبق في أحداث سليانة ولا في باقي الجهات، في برجه العاجي، فقد كان يمقت «البيروقراطية» النقابية، فكرا وممارسة...
من الاتحاد الجهوي بالقيروان، الى المركزية النقابية، مكلّف منذ 2006 بقسم التشريع...
ناشط في مجال حقوق الانسان... وجامعي يدرّس العلوم الاقتصادية...
حسين العباسي، الذي يؤمن بأن الاتحاد هو قوّة ضغط على السلطة وقوّة معدّلة لممارسة السلطة، ولكنه ليس هيكلا للحكم...
يؤمن بأن الاتحاد العام التونسي للشغل، يمتلك القدرة والمهام، لطرح الخيارات الاقتصادية، والاجتماعية على أولي الحكم... مثلما كان ديدنه منذ تأسيسه.
غير مجامل في هدوء... يحاول حسين العبّاسي اليوم، أن يُرسي قيما جديدة قديمة في كيفية تعاطي الاتحاد مع مكوّنات المجتمع المدني والمجتمع السياسي من حكم ومعارضة وهي «حسن النيّة» قبل الدخول في أي حوار
من السبيخة بالقيروان... الى أركان القارّات الخمسة... أينما وجد العمل النقابي، يقود حسين العباسي منظّمة الاتحاد العام التونسي للشغل بكل اصغاء للناقد قبل الجامل... ولكن في حدود الاحترام
يقول عنه أحمد بن صالح الأمين العام الأسبق للاتحاد العام التونسي للشغل إنه يتميّز بهدوء لا محدود
لكنه وهو يغضب ممّا لحق بالاتحاد من «تهجّم» و«هجومات»... وحين يقول «للصبر حدود»...لا يعني أنه «يتلحّف» بـ «دانكيشوتية»... ما
راشد الغنوشي : براغماتيـــة ...تجمـــع وتفــــرق
لم يكن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي عاد من مهجره ببريطانيا ربيع 2011 ليضيّع كثيرا من الوقت لإعادة لملمة صفوف حركة النهضة التي يقول ملاحظون أنها عرفت أشهرا قبل اندلاع ثورة 14 جانفي، ما يشبه التصدع في صفوف أعضائها بين «جماعة» المهجر وجماعة الداخل.
ولم يكن راشد الغنوشي، الذي حبته وسائل إعلام قديمة وجديدة، تونسية وأجنبية بهالة بدا فيها «المنقذ» و«المرشد» و«المجمع» منذ رجوعه من مقر إقامته بلندن طوال 21 عاما، لم يكن ليدع الفرصة تمرّ دون أن يتموقع في المشهد السياسي بتونس...مشهد بدا بعيد الثورة متململا...ومترددا.... تجاه العديد من القضايا...مثل الإطاحة بالدستور والإطاحة بالتجمع الدستوري الديمقراطي...حاكم البلاد الأوحد سابقا
ابن حامة قابس الذي ولد سنة 1941 سوف يتعرف عليه المجتمع السياسي التونسي من خلال تيار إسلامي ـ سياسي أواخر السبعينات سريعا ما تربع على عرضه فيصم توجهات حركة الاتجاه الاسلامي انطلاقا من مطبخ خارج سياق الحركة الاسلامية الوليدة
لم يكن حديثه ولا كتاباته لتبوح بتوجه «ديمقراطي» وانفتاحي إلا متى اقتضت الظرفية الدولية، عندما حصل الطلاق بين الامبريالية الأمريكية والمجموعات الاسلامية في 2001 وتحديدا عندما قررت «واشنطن» أن تحول وجهة وأسس الصراع الثنائي القطبي من الاتحاد السوفياتي الذي أفل عقب «إنتصار» الاسلام السياسي المسلح في أفغانستان في 1988 بعد الإطاحة بحكم نجيب الله الشيوعي في أفغانستان في 2001 كان مطلوبا أن يبرز إسلام سياسي متنور ويؤمن بالديمقراطية والتداول على السلطة، يمكن أن تقارع به الإمبريالية الغربية اسلامييي أفغانستان حتى تبعد عنها (الإمبريالية) تهمة معاداة الإسلام
فقد أصبح «ملاك» الرحمة من القاعدة وبن لادن الذين كانوا يستقطبون شبابا عربا ومسلمين ليتجهو إلى أفغانستان «ينظفون» الأرض من «رجس» الشيوعيين «الكفار» وقد جهزت لهم «أمريكيا الصديقة» بغالا أسترالية تستقدمها على متن الطائرات «جامبو jumbo» التجارية العملاقة من أستراليا إلى أفغانستان لأن سمة تلك البغال الأسترالية تتمثل في أنها وحدها القادرة من مجمع الدوابّ المماثلة، على تسلق جبال الثلج... وقد حاول كل من بن علي ومبارك، عبثا، أن يهللا للتصادم بين إسلاميي أفغانستان وأمريكا، حتى يلصق كل منها نعت «الإرهاب» في كل من النهضة والإخوان المسلمين... 
لم ينجح النظامان العميلان، للولايات المتحدة، في جعل الغنوشي ومرشد الإخوان في مصر، في خانة أعداء الغرب...
سوف يعمد راشد الغنوشي على استغلال كل التطورات السياسية في تونس وفي المنطقة العربية ليستفيد مرة أخرى من طعام لم يطبخه الاسلاميون. 
قتدعايات أزمة 1978 بين الاتحاد العام التونسي للشغل ونطام بورقيبة انتهت إلى شبه انفتاح مفروض ، بأن إعتلت صحيفة «الرأي» مشهد الصحافة بالبلاد وكان راشد الغنوشي وأقلام أخرى من قياديي «الإتجاه الإسلامي» يمثلون العمود الفقري للتحرير بتلك الصحيفة التي كان يمتلكها صهر بورقيبة السيد حسيب بن عمار والذي كان يكرر أكثر من مرة أن منبر «الرأي» هي «مساندة» نقدية للنظام » وليست معارضة على طريقة «الشعب السرّية» مثلا... لم يكن الشدّ والجذب بين الحركة الاسلامية في تونس، والاتحاد العام التونسي للشغل غريبة عما نشهده اليوم ...فالإتحاد وضمن هياكله الوسطى والجهوية والدنيا، ما فتئ يمثل الغطاء للقوى التقدمية واليسارية المناهضة كليا للنظام الحاكم، في حين أن حركة النهضة سليلة حركة الاتجاه الاسلامي تتعاطى مع منبر الاتحاد من منظار سياسي وليس من باب الإيمان بالفعل النقابي
رئيس حركة النهضة سوف يعمل على «التخفيف» من صعود وتصاعد «نفوذ» الاتحاد العام التونسي للشغل عبر سياسة الضغط...و«كسر الشوكة» ...حتى وإن اقتضى الأمر رفع «العصا والحجرة» في ساحة محمد علي
كماسيعمد رئيس حركة النهضة، إلى «تصعيد» في الخطاب، تجاه الاتحاد، سرعان ما يتراجع عن هذا التصعيد بمجرد أن وصلت الرسالة من الاتحاد : تصعيد بتصعيد من خلال إضراب عام بأربع ولايات كانت حركة النهضة في ثلاثة منها صاحبة الأكثرية في إنتخابات 23 أكتوبر 2011.
السيد راشد الغنوشي، الذي اقترب حركة ومسؤولا سياسيا من اليسار ومن التقدميين بتونس، سنوات الجمر سواء في عهد بورقيبة أو عهد بن علي، قد يكون لم يقدر جيدا عواقب «التنكر» لوزن هذه الأطراف بمن فيها الاتحاد العام التونسي للشغل
فقد اتخذ «الغنوشي» الذي ينقده رفاق دربه من الزعامات الاسلامية بأنه براغماتي ينفث «الليّن» وينفث «الشدة» وقتما تقتضيه السياسة «البراغماتية» المعروفة عن مدرسة «الأنغلو ساكسون»... خطابه السياسي هو الذي أوصل النهضة إلى دفة الحكم ولكنه يرفض أن يقال عنه إن نفس هذا الخطاب، الذي بدا محل نقد حتى من داخل «النهضة» هو الذي سيخرج الاسلاميين من الحكم، وعبر الانتخابات من حامة قابس إلى لندن...مرورا بعواصم عديدة منها الشرق...ومنها الخليج... بدا «شيخ» المريدين...الذين يؤمنون بأن تونس ماتزال تحتاح إلى شخصية «كاريزماتية» (زعامتية) في زمن خلت منه الزعامات التي تصنعها الشعوب وأصبحت المخابر هي من يصنع الرئاسات والزعامات.

 :المصدر   
فاطمة بن عبد الله الكرّاي